إنَّ الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فهو المهتدي، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أمَّا بعدُ:
أخي القارئ، رُبَّما كان السؤالُ الذي يُلِحُّ عليك عند قراءتك لعنوان هذا المقال هو: كم عدد الذين تكلَّموا في المهد؟
والإجابة حقًّا شائكة، وقد نختلف وقد نتَّفق، ولكن لا ريبَ أنَّنا لن نختلفَ على الصحيح الثابت عن النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- فيمَن تكلَّموا في المهْد.
وها نحن نطرحُ آراء العلماء وتفسيراتهم؛ لنستخلصَ الحقيقة التي تعتمدُ على الدليل الصحيح الثابت من الكتاب والسُّنة، والله المستعان.
أخرج البخاري ومسلم في صحيحهما عن أبي هريرة عن النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: «لَم يتكلَّمْ في المهد إلا ثلاثة: عيسى، وكان في بني إسرائيل رجلٌ يُقال له: جُرَيْج كان يصلي، جاءته أُمُّه فدعتْه، فقال: أُجيبها أو أصلِّي؟ فقالتْ: اللهم لا تُمِتْه حتى تُرِيَه وجوه المومسات، وكان جريج في صَوْمعته، فتعرَّضتْ له امرأة وكلَّمتْه، فأبى فأتتْ راعيًا فأمكنتْه من نفسها، فولدتْ غلامًا، فقالتْ: مِن جُرَيْج، فأتوه فكَسروا صومعته، وأنزلوه وسبُّوه، فتوضَّأ وصلَّى، ثُمَّ أتى الغلام، فقال: مَن أبوك يا غلام؟ قال: الراعي، قالوا: نبني صومعتك من ذَهَبٍ، قال: لا، إلا من طين، وكانتِ امرأة ترضِع ابنًا لها من بني إسرائيل، فمرَّ بها رجلٌ راكبٌ ذو شارة، فقالتْ: اللهم اجعل ابني مثلَه، فترك ثَدْيها وأقبلَ على الراكب، فقال: اللهم لا تجعلْني مثلَه، ثم أقبل على ثَدْيها يَمصُّه- قال أبو هريرة: كأنِّي أنظرُ إلى النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- يمصُّ إصبعَه- ثم مرَّ بأَمَةٍ، فقالتْ: اللهم لا تجعلِ ابني مثلَ هذه، فتَرَك ثَدْيها، فقال: اللهم اجعلْني مثلَها، فقالتْ: لِمَ ذاك؟ فقال: الراكب جَبَّارٌ من الجبابرة، وهذه الأَمَة يقولون: سَرَقْتِ زَنَيْتِ، ولَم تَفعلْ»؛ أخرجه البخاري، (ح / 3181)، ومسلم (ح/4626) نحوه، واللفظ للبخاري.
وقال ابن حجر في شرح الحديث ما مختصره:
حديث أبي هريرة في قصة جُرَيْج الراهب وغيره، والغرض منه ذِكْرُ الذين تكلَّموا في المهد، وأورده في ترجمة عيسى أنه أوَّلُهم، قوله: «لَم يتكلَّمْ في المهد إلا ثلاثة»، قال القرطبي: في هذا الحصْر نظرٌ، إلا أنْ يُحْمَلَ على أنه- صلَّى الله عليه وسلَّم- قال ذلك قبل أن يعلمَ الزيادة على ذلك، وفيه بُعد، ويحتمل أنْ يكون كلامُ الثلاثة المذكورين مُقَيَّدًا بالمهد، وكلام غيرهم من الأطفال بغير مَهْدٍ، لكنَّه يُعَكِّر عليه أنَّ في رواية ابن قُتيبة: أنَّ الصبيَّ الذي طرحتْه أُمُّه في الأخدود كان ابنَ سبعة أشهر، وصُرِّح بالمهْد في حديث أبي هريرة، وفيه تَعقُّّبٌ على النووي في قوله: إنَّ صاحب الأخدود لَم يكنْ في المهْد، والسبب في قوله هذا ما وقَعَ في حديث ابن عباس عند أحمد والبزَّار، وابن حِبَّان والحاكم: «لَم يتكلَّمْ في المهد إلا أربعة»، فلم يَذْكر الثالث الذي هنا، وذَكَر شاهدَ يوسف، والصبي الرضيع الذي قال لأُمِّه وهي ماشطة بنت فرعون لَمَّا أراد فرعون إلقاءَ أُمِّه في النار: «اصبري يا أُمَّاه، فإنَّا على الحقِّ».
ثم ذَكَر القرطبي- رحمه الله- عددَ الذين تكلَّموا في المهد، فقال:
وأخرجَ الحاكمُ نحوه من حديث أبي هريرة، فيجتمعُ من هذا خمسة، ووقَعَ ذكرُ شاهد يوسف أيضًا في حديث عِمران بن حُصَين، لكنَّه موقوف، ورَوَى ابنُ أبي شيبة مثل حديث ابن عباس، إلا أنَّه لَم يذكر ابن الماشطة، وفي صحيح مسلم من حديث صُهيب في قصة أصحاب الأخدود: أنَّ امرأة جِيء بها لتُلْقَى في النار أو لتَكْفُر، ومعها صبي يرضَع، فتقاعستْ، فقال لها: يا أُمَّاه، اصبري؛ فإنَّك على الحق، وزعم الضحَّاك في تفسيره: أن يحيى تكلَّم في المهْد؛ أخرجه الثعلبي، فإن ثبتَ صاروا سبعة.
وذَكَر البغوي في تفسيره:
أنَّ إبراهيم الخليلَ تكلَّم في المهْد، وفي سِيَر الواقدي: أنَّ النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- تكلَّم أوائل ما وُلِد، وقد تكلَّم في زمن النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- مبارك اليمامة، وقصته في دلائل النبوة؛ للبيهقي من حديث مُعْرِضٍ- بالضاد المعجمة، والله أعلم- على أنَّه اختلف في شاهد يوسف، فقيل: كان صغيرًا، وهذا أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس وسنده ضعيف، وبه قال الحسن وسعيد بن جُبير، وآخر عن ابن عباس أيضًا ومجاهد أنه كان ذا لِحْيَة، وعن قَتَادة والحسن أيضًا كان حكيمًا من أهلها. انتهي.
ولا عجبَ- أخي القارئ- إن كنتَ قد شعرتَ بالحْيَرة مثلي، وتسأل نفسك مرة أخرى: كم العدد الحقيقي للذين تكلَّموا في المهْد؟
وها نحن نوضِّح الأمر بما ثبتَ عن النبي- صلى الله عليه وسلم- والله المستعان.
جاء في الحديث المذكور آنفًا: (ثلاثة تكلَّموا في المهد)، وهم:
1- عيسي ابن مريم- عليه السلام.
2- جُرَيْج الراهب.
3- ابن المرأة الرضيع.
وفي رواية أخرى لمسلم (ح / 5327)، وهي الرواية التي يَرى النووي أنَّ الطفل لَم يتكلَّمْ فيها في المهْد، وأنَّه كان صغيرًا، وقد بيَّنَّا رأْيَ القرطبي في شرح ابن حجر.
عن صهيب أن رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: «كان مَلِكٌ فيمَن كان قبلكم، وكان له ساحر، فلمَّا كَبُر، قال للملك: إني قد كَبرتُ، فابعثْ إليَّ غلامًا أعلِّمه السحرَ، فبعثَ إليه غلامًا يعلِّمه، فكان في طريقه- إذا سَلك- راهبٌ، فقَعَد إليه وسَمع كلامه فأعجبه، فكان إذا أتَى الساحر مرَّ بالراهب، وقَعَد إليه، فإذا أتى الساحر ضَرَبه، فشَكَا ذلك إلى الراهب، فقال: إذا خشيتَ الساحر، فقل: حَبَسني أهْلي، وإذا خشيتَ أهلك، فقل: حَبَسني الساحر، فبينما هو كذلك، إذ أَتَى على دابَّة عظيمة قد حبستِ الناس، فقال: اليوم أعلمُ الساحر أفضل أم الراهب أفضل، فأخذ حَجرًا، فقال: اللهم إنْ كان أمرُ الراهب أحبَّ إليك من أمر الساحر، فاقتلْ هذه الدابَّة؛ حتى يمضي الناس، فرمَاها فقتَلَها، ومَضَى الناس، فأَتَى الراهب فأخْبَرَه، فقال له الراهب: أي بُنَي، أنت اليوم أفضل منِّي وقد بَلَغ من أمرك ما أرى، وإنك ستُبْتَلى، فإنِ ابتُلِيتَ فلا تدل عليّ، وكان الغلام يبرِئ الأَكْمَه والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدواء، فسَمِع جليسٌ للملك كان قد عَمِي، فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: ما هاهنا لك أجْمع إنْ أنت شَفَيْتَني، فقال: إني لا أشفي أحدًا، إنما يشفي الله؛ فإن أنت آمنتَ بالله، دعوتُ الله فشفاك، فآمَنَ بالله، فشفاه الله، فأتى الملك، فجلس إليه كما كان يجلِس، فقال له: الملك مَن ردَّ عليك بصرَك، قال: ربِّي، قال: ولك ربٌّ غيري؟! قال: ربِّي وربُّك الله، فأخذه فلم يَزَلْ يُعَذِّبه؛ حتى دلَّ على الغلام، فجِيء بالغلام، فقال له الملك: أي بُنَي، قد بَلَغ من سِحْرك ما تبرِئ الأَكْمة والأبرص، وتفعل وتفعل، فقال: إني لا أشفي أحدًا، إنما يشفي الله، فأخَذَه فلم يَزَلْ يعذِّبه حتى دلَّ على الراهب، فجِيء بالراهب، فقيل له: ارجعْ عن دينك، فأَبَى فدعا بالْمِئْشار، فوضَعَ الْمِئْشَار في مَفْرِق رأسه، فشقَّه حتى وقَعَ شِقَّاه، ثم جِيء بجليسِ الملك، فقيل له: ارجِعْ عن دينك، فأَبَى فوضَعَ الْمِئْشار في مَفْرِق رأْسه فشقَّه به حتى وقَعَ شِقَّاه، ثم جِيء بالغلام، فقيل له: ارجِعْ عن دينك، فأَبَى فدَفَعه إلى نفرٍ من أصحابه، فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا، فاصعدوا به الجبلَ، فإذا بلغتُم ذِروته فإنْ رجَعَ عن دينه، وإلاَّ فاطرحوه، فذهبوا به، فصعدوا به الجبل، فقال: اللهم اكفنيهم بما شئتَ، فرجفَ بهم الجبلُ، فسقطوا وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فَعَل أصحابُك؟ قال: كفانيهم الله، فدفَعَه إلى نفرٍ من أصحابه، فقال: اذهبوا به فاحملوه في قُرْقُور؛ أي: مَرْكب، فتوسَّطوا به البحر، فإن رجَعَ عن دينه، وإلا فاقْذفوه، فذهبوا به، فقال: اللهم اكفنيهم بما شئْتَ، فانكفأتْ بهم السفينة، فغَرقوا وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابُك؟ قال: كفانيهم الله، فقال للملك: إنَّك لستَ بقَاتلي؛ حتى تفعلَ ما آمُرك به، قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيدٍ واحدٍ وتَصْلبني على جِذْعٍ، ثم خُذْ سهمًا من كِنانتي، ثم ضَعِ السهْم في كَبد القَوس، ثم قُلْ: باسم الله ربِّ الغلام، ثم ارْمني، فإنَّك إذا فعلتَ ذلك، قتلْتَني، فجَمَع الناس في صعيد واحدٍ وصلبَه على جِذْعٍ، ثم أخَذَ سهمًا من كِنانته، ثم وضَعَ السهم في كَبد القوس، ثم قال: باسم الله ربِّ الغلام، ثم رماه فوقَعَ السهم في صُدْغه، فوضَعَ يده في صُدْغه في موضع السهْم فمات، فقال الناس: آمنَّا بربِّ الغلام، آمنَّا بربِّ الغلام، آمنَّا بربِّ الغلام، فأتى الملك، فقيل له: أرأيتَ ما كنتَ تحذر؟ قد والله نزل بك حَذَرُك، قد آمَن الناس، فأَمَر بالأخدود في أفواه السِّكَك، فخُدَّتْ، وأَضْرَم النيران، وقال: مَن لَم يرجِعْ عن دينه فأحموه فيها، أو قيل له: اقتحم ففعلوا، حتى جاءتِ امرأة ومعها صبيٌّ لها، فتقاعستْ أن تقعَ فيها، فقال لها الغلام: يا أُمَّاهْ، اصبري؛ فإنَّك على الحقِّ».
ويُضاف إلى الثلاثة المذكورين سَلفًا هذا الرضيع، ويكون العدد أربعة.
ولاحِظ اختلافَ النووي والقرطبي- رحمهما الله- الذي ذكرْناه بشأْنِ هذا الرضيع: هل كان في المهد أو لا؟ وأميل لرأي النووي أنَّه لَم يكنْ في المهد، وإن كان صغيرًا؛ وذلك لأنَّ الحديث صريحٌ بأنهم ثلاثة وبدأ بعيسي- عليه السلام- رغم أنَّ ميلادَه بعد قصة أصحاب الأخدود، فلمَّا لَم يذكرْه النبي- صلى الله عليه وسلم- مع الثلاثة، دلَّ هذا على أنه لَم يكنْ في المهد، والله أعلم.
وقال ابنُ كَثير في البداية والنهاية بعد ذِكْره لقصة جُرَيْج الراهب ما مختصره:
فهؤلاء ثلاثة تكلَّموا في المهد: عيسى ابن مريم، وصاحب جُرَيْج الراهب ابن البغي من الراعي كما سمعت واسمه: يابوس، كما ورَد مُصَرَّحًا به في صحيح البخاري، والثالث ابن المرأة التي كانتْ تُرْضعه، وقد ورَدَ فيمَن تكلَّم في المهد أيضًا شاهدُ يوسفَ كما تقدَّم، وابن ماشطة آل فرعون، والله أعلم؛ انتهي.
والحاصل أنَّ الثلاثة الذين ذكرْناهم لا اختلافَ عليهم، وباقي الروايات لا تثبتُ عن النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- مثل رواية الحاكم في المستدْرَك (2 / 295)، ولفظه: «لَم يتكلَّمْ في المهد إلا ثلاثة: عيسى ابن مريم، وشاهدُ يوسف، وصاحب جُرَيْج، وابن ماشطة بنت فرعون».
قال الألباني- رحمه الله- مُختصرًا وبتصرُّف: في السلسلة الضعيفة والموضوعة (2 / 271):
هذا الحديث بهذا الإسناد باطل عندي؛ وذلك لأمرين:
الأول: أنَّه حَصَر المتكلمين في المهْد في ثلاثة، ثم عند التفصيل ذَكَرهم أربعة!
والثاني: أنَّ الحديث رواه البخاري في صحيحه من الطريق التي عند الحاكم تمامًا، إلا أنَّه خالَفَه في اللفظ، فقال: «لَم يتكلَّمْ في المهد إلا ثلاثة».
ثم قال- رحمه الله-: ولَم أجدْ في حديث صحيح ما ينافي هذا الحصْر الوارد في حديث الصحيحين، إلا ما في قصة غلام الأخدود.
ثم قال- رحمه الله:
ثم إنَّ ظاهر القرآن في قصة الشاهد أنه كان رجلًا لا صَبيًّا في المهْد؛ إذ لو كان طفلًا، لكان مجرَّد قوله: إنها كاذبة كافيًا وبرهانًا قاطعًا؛ لأنه من المعجزات، ولما احْتُيج أنْ يقول: {من أهلها}، ولا أنْ يأتِيَ بدليلٍ حَيٍّ على بَرَاءة يوسفَ- عليه السلام- وهو قوله: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف: 26- 27].
وقد رَوَى ابنُ جرير بإسنادٍ رجالُه ثِقات عن ابن عباس أنَّ الشاهد كان رجلًا ذا لِحْيَة، وهذا هو الأرجح، والله أعلم.
وبعدُ- أخي القارئ- لا ريبَ أنَّك أدركتَ الآن واقتنعتَ أنَّ الثابت في عدد الذين تكلَّموا في المهْد ثلاثة؛ كما هو ثابتٌ في الصحيحين، فضلًا عن غلام الأخدود الذي نرجِّح فيه رأْي النووي أنَّه لَم يكنْ في المهْد، والله أعلم.
والله من وراء القصْد، وهو يَهْدي السبيل.
الكاتب: سيد مبارك.
المصدر: موقع الألوكة.